• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

أبعاد الفساد المالي والإداري في عمليات التنمية

وليد خالد صالح الدليمي

أبعاد الفساد المالي والإداري في عمليات التنمية

تتعدّد التعاريف الرامية لتحديد مفهوم الفساد نظراً لتعدّد الأشكال والمظاهر التي يتخذها في مجتمع ما فيعرف الفساد بأنّه معيار للدلالة على غياب المؤسسات الفعّالة التي شهدها عصرنا الحالي، وعليه فإنّ الفساد ليس نتيجة لانحراف السلوك عن الأنماط السلوكية المقبولة فحسب، بل إنّه نتيجة لانحراف الأعراف والقيم ذاتها عن أنماط السلوك القائمة والمعهودة.

كما يعرّف الفساد بأنّه تلك الأعمال التي يمارسها أفراد من خارج الجهاز الحكومي تعود بالفائدة على الموظف العام، فيسمح له بالتهرب من القوانين والسياسات سواء باستخدام قوانين جديدة أو بإلغاء قوانين قائمة تمكنهم من تحقيق مكاسب مباشرة وفورية.

وقد ينطوي الفساد على الوعيد والتهديد والابتزاز من قبل موظف عام أو عميل وقد يجري داخل المؤسسة في القطاعين العام والخاص. إذن مهما تعدّدت التعاريف وتباينت فالفساد سلوك غير طبيعي يحدث عندما يحاول شخص ما وضع مصالحه الخاصّة أياً كان موقعه فوق المصلحة العامّة أو فوق القيم التي يتعهد بخدمتها.

وقد استفحل الفساد في السنوات الأخيرة في الدول المتطوّرة أو الأكثر تقدّماً وفي الدول النامية، فقد أدت فضائح الفساد إلى تغيرات في أعلى المستويات الحكومية في هولندا وألمانيا وبريطانيا واليابان والولايات المتحدة. أمّا الدول النامية، فهي عرضة أكثر من غيرها لما يسمى الفساد الحكومي لاسيما عندما يؤدي القطاع العام دوراً كبيراً ومركزياً في المجتمع، الأمر الذي يعني بأنّ ليس للفساد هوية أو طابع سياسي محدد فقد عرفته على حدّ سواء الأنظمة الشمولية والديمقراطية. فهو قابل للانتشار في أي وسط سياسي كان بمستويات مختلفة تظهر بثلاثة أشكال أساسية هي:

- المستوى الرئاسي:

ويتعلّق هذا الشكل من الفساد بذروة الهرم السياسي أي فساد الرؤساء والحكام من خلال استغلال سلطاتهم لتحقيق مكاسب شخصية بطُرق غير مشروعة وهو من أخطر صور الفساد وانتشر بكثرة في البلدان الأفريقية والآسيوية وأمريكا اللاتينية حيث سجّل بعض رؤساء هذه الدول ارتكابات مالية هائلة وغير مشروعة باستغلالهم لموقعهم. فالرئيس الفلبيني السابق ماركوس قُدّرت ثروته قبل هروبه بنحو ثلاثة مليارات دولار، والأمثلة الأخرى كثيرة على ذلك أمثال الرئيس الهاييتي جان كلود والإندونيسي سوهارتو وكبار المسؤولين في المكسيك حيث تحوّلت مناصب هؤلاء وآخرين غيرهم من مناصب للخدمة العامّة إلى مناصب لجني الثروات الشخصية عبر استغلال النفوذ وقبض الرشاوى والعمولات بسلوك مباشر أو غير مباشر عن طريق زوجاتهم وأبنائهم وأقاربهم وأصدقائهم المحسوبين عليهم.

- المستوى المؤسسي:

وهو فساد بعض أعضاء السلطات الثلاث: التشريعية، القضائية، التنفيذية ولعلّ من أخطر صور الفساد المؤسسي هو فساد الوزراء وكبار المدراء وأعضاء البرلمان من ممثلي الأحزاب السياسية وكذلك القُضاة لاسيما عندما تتداخل المصالح الشخصية لعينة من هؤلاء فيما بينها حيث يزداد حينها ضرر المصلحة العامّة وتتعثر المشاريع والخطط التنموية.

- المستوى الإداري:

وهو فساد بعض الموظفين في المستويات المتوسطة والدنيا من الهرم الإداري وعلى الرغم من انحسار قضايا الفساد بهذه الأمور الصغيرة التي تتم بين الموظف العام والعميل صاحب الخدمة لقاء تسهيل معاملته وإنجازها بأسرع وقت ممكن وبطُرق ملتوية فإنّ أثرها شديد الوقع في المصلحة العامّة عندما تنتشر كظاهرة متعارف عليها في مختلف إدارات الدولة وخاصّة الكمارك والشرطة والدوائر ذات الشأن في إبرام العقود والمناقصات وغيرها.

إذن فلكلّ ما سبق تأثير كبير في مسار عملية التنمية والتي لم تقتصر على زيادات معدلات النمو ورفع معدلات الإنتاج المحلي وتطوير كفاءة الإنتاج وتحسين المستوى المعيشي للمواطنين فحسب، بل هي كذلك من خلال تغيير جذري في البنية الاجتماعية يفضي إلى تلك المؤشرات للانتقال بالمجتمع ككلّ إلى حالة أفضل اقتصادياً واجتماعياً بالمعايير المتعارف عليها.

فالتنمية لهذا المجتمع تقوم على بُعدين أساسيين اقتصادي واجتماعي، حيث إنّ البُعد الاقتصادي ينطوي على أمرين أيضاً: الأوّل هو زيادة فعالية الدولة من خلال مؤسساتها في توجيه النشاط البشري. أمّا الأمر الثاني هو توفير المناخ الديمقراطي وإتاحة الحرّيات العامّة للمواطنين للمشاركة في توجيه السياسة العامّة للبلاد. وبتكامل الدولة والمجتمع يزداد كلّ منهما مناعة وقوّة فيما لو تميز عمل الدولة بمؤسساتها المختلفة بالشفافية وحس المسؤولية لدى القائمين عليها.

وهذا هو الإطار النظري أو المثالي للتنمية، أمّا الواقع فقد يبتعد عن ذلك قليلاً أو كثيراً وفقاً لحكمة القيادة السياسية وحرصها على التنمية في تحقيق الأهداف التي رسمها المجتمع للوصول إلى وضع أفضل ومعاصر والتي يفترض بها أن تسعى جاهدة على فرض قضيتي الشفافية والمساءلة القانونية على جميع مفاصل عملها بدءاً بأعلى الهرم وانتهاءً بقاعدته لتكفل تحقيقاً ناجحاً لعملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية بمختلف مستوياتها ولتحصن بذلك المجتمع من آفة الفساد وما يقترن به من مظاهر الفوضى والتسيب واللامبالاة وانعدام الحس بالمسؤولية.

وعليه إذا كانت القواعد المنظمة للحياة العامّة موضوعية وعلنية وكذلك القرارات الحكومية وإذا كان المسؤولون كلّ في مجال عمله على مستوى السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية يخضعون للرقابة الوقائية واللاحقة، وإذا تم تغيير ومحاسبة المسؤولين الذين خرجوا عن القوانين، حينها تتوافر الشروط المناسبة والصحيحة للتنمية وتتحقق الأهداف المرسومة تباعاً وكما تم رسم مساراتها كمياً وزمنياً من جهة وتقل معدلات الهدر وظاهرة الفساد من جهة أخرى.

فالفساد هو العدو الأوّل للتنمية وهو ظاهرة معقّدة تتداخل فيها قضايا السياسة والإدارة والمال، لذا يفترض بالقيادة السياسية متابعتها بدقة والعمل على عدم انتشارها من خلال فصل السلطات الثلاث التشريعية والقضائية والتنفيذية واحترام ممارسة المواطن لحقوقه المدنية والسياسية بما فيها من حرّية التعبير إلّا أنّ الديمقراطية لا تمنع الفساد في المجتمع رغم ما تتضمنه من شفافية ومصارحة ولكن في ظلها لا يتحوّل الفساد إن وجد إلى ظاهرة مستشرية ومن ثم يمكن تطويقه ومكافحته بسهولة من خلال مساءلة ومحاسبة المسؤولين المتورطين بقضاياه بالإضافة إلى ذلك يجب حصر ثروات كبار المسؤولين وتحديد مصادرها من قبل الأجهزة الرقابية التي يفترض بها أن تتحقق من ذلك قبل تولي المسؤولية العامّة وفي أثنائها وبعدها، كما يجب إنشاء أجهزة رقابية ذات فعالية وصلاحيات واسعة تتمتع بالاستقلال في عملها تعدّ تقاريرها بشكل دوري وعلني للمواطنين كافة بالتعاون مع مختلف المؤسسات الإعلامية مع التركيز دائماً على نشر الوعي الاجتماعي والسياسي والتأكيد على القيم الأخلاقية والإنسانية عبر المؤسسات المختصة في التربية والإعلام والثقافة لإعلاء القيم المجتمعية النزيهة وضرب المثل الأعلى والقدوة الحسنة من قبل القادة والمسؤولين في الدولة. والأهم من كلّ ذلك هو سيادة القانون وعدم تجاوزه بأي شكل من الأشكال من قبل جميع أفراد المجتمع من مسؤولين ومواطنين.

ارسال التعليق

Top